ما يطرحه هذا المقال، في ابتسار، هو أن الجيش لا يحكم مصر فعلياً، ولا يريد الحكم، وربما – ببعض التخرُّصِ – يمكن أن نقول إنه لا يستطيع الحكم. إنه يريد رتق فراغ السلطة بأسرع ما يمكن وحسب، ولو على حساب دفنِ أسئلة الثورة في االسياسة، وبخاصة في الاقتصاد والاجتماع، مُجدداً. وهو يقدم في الجزء الثاني منه، فيما يحاول التقديم، مقاربة بدائية لنظريات الثورة وانتزاع الحكم. وينتهي بتوصية واحدةٍ ووحيدة.
فالحاصل أن التدقيق في سياقات متداخلة، تتجاوز السياسية والأمن إلى الاجتماع والاقتصاد، تتيحُ رصدَ عدة ملامح تشي بأن السيسي – رغم عدم افتقاره للدهاء وبُعدِ النظر – يمكن أن يكون بمثابة واجهة تُدفع للسلطة بقدر ما هو فاعل أساسي فيها. وهي النظرية التي يطرحها هذا المقال. وبعبارة أخرى: الدفع بالسيسي "كحاكم واجهة"، بُغيةَ الحفاظ على مكاسب شبكات من التجّار والبيروقراطيين والسياسيين – بغض النظر عن تأثير الدولة العميقة - الذين لا يريدون أن ينافسوا إلا أنفسهم وفق قواعدهم، في سلطوية لا تقل انغلاقاً و”فاشية” عن تلك التي قدمها الإسلاميون نموذجاً في الحُكم. ولا نطرحُ هنا أن يكون السيسي محض خيال مآتة، بل هو أثقل من ذلك بالطبع، لكننا فقط نذهبُ إلى أن ثمة توافق مصالح على وظيفته كحاكم.
أولاً: في حقيقة دور الجيش وسيطرة الدولة العميقة
(1)
الدولة العميقة وما حولها
بينما تقوم حكومة الببلاوي بدورها التنفيذي في وضع الخطط وتصريف شؤون البلاد والعباد، يحتكم الرئيس المؤقت عدلي منصور على قدر ضئيل من السلطة الرمزية، يبدو غير راغبٍ في زيادتها بل على العكس؛ يبدو راغباً في التخففِ منها وربما الترفعِ عنها، يبقى مُلتصقاً بباب السلطة لا بكرسيها، مُتلبساً إحساس "الحكم الرابع" في مباراةٍ يُخشى أن يُنهيها جمهورُ المتفرجين في أية لحظة، كما فعل عدة مرات سابقاً. وهو إحساسٌ يشمل بدرجة أو أخرى بعض الوزراء والبيروقراطيين الذين دخلوا الحكومة "المؤقتة".
يظل الجيش إذن - فوق كل ذلك وقبله وخلاله - صاحب الكلمة المسموعة في النظام الحاكم حالياً. استحال وزير دفاعه، الفريق السيسي، متوّجاً كرئيس بحكم الأمر الواقع، حتى تنتهي إجراءات روتينية تسمى الانتخابات، أو "كتب الكتاب" أو "العُرس الديموقراطي"، ويتم الفرح بحضور المعازيم. هكذا يتمنى البعض، أو يتوّهم آخرون.
ينصرف التحليل السابق بحسبانه توصيفاً يسوقه جُلّ المنغمسين في الشأن المصريّ، حتى وإن كان أحدهم إخوان أو "بيحترمهم"، وكان الآخر حزب وطني أو حزب "جمال مبارك مظلوم يا ناس"، يروّج هؤلاء جميعاً، سواء لجهةِ النقدِ أو التحذير أو التملق – سيان - لفكرة إن القرارات الحاسمة والحساسة لا تمر دون استشارة ومعرفة وربما توقيع "عريس" الأمر الواقع؛ الجنرال ووكلاؤه في الدولة العيمقة.
(2)
الفراغ العميق والجماهير الضامّة
تتراجع صحة ذلك التحليل بمضيّ الوقت، ولا تزيد، عكس ما يبدو على السطح، إذ تخبو لوثات التشنج القومي الإعلامي المُستفحل (التي كان أحدها مثلا حملة تروّج السيسي كرئيس مؤقت لمدة 4 سنوات بلا انتخابات)، وتعاود الظهور أحياناً، وبين تلك النوبات المُضحكة – والمُخيفة في آنٍ - وانسحابها، تنكشف للبصائر حقيقة واحدة مؤكدة: فراغ السلطة.
الفراغ الذي يُخطئ مَنْ يقول إنه بدأ بعد الإطاحة بمبارك على إثر ثورة عالمية القيم أمسك الجيشُ بتلابيبها في لحظة هيستيريا الجماهير الضامّة (الضامّة؛ بضمِّ ما انفصل وانفصم خشية اتساع فجوات الأسئلة تعويلاً على رتقها لاحقاً)، فشيخوخة الدكتاتور القابع في محبسه حتى الآن دُونَ حكمٍ نهائيٍ رسميٍ بدمويته وفساده كانت مُنذرة لجهةِ سِنّه وأمراض جسده وبالتالي غيابه تاركاً في سُدة السلطة اللا أحد، بينما يتخرّصُ المقربون من المخابرات المصرية إن المشير طنطاوي آنذاك - ومن قبل الثورة - وقف رافضاً لتعيين أي نائبٍ للرئيس، كما يعرفُ الجميع أنّ "الولد المُعجزة" في استفزازِ سياساته وسماجة تكريبته، جمال مبارك، ومَنْ حوله، كان منبوذاً عسكرياً وشعبياً.
الفراغ إذن كان متوقعاً في كل الأحوال، لكنه جاء فائراً مُندفعاً كالأحلام الإيروتيكية، ثورةٌ لا موت... وقصائد شعر وروايات أدبٍ لا أخبار عزاء وبرقيات تزلّف... وقضاء يسبق قدراً لا يملكُ إلا أن يسايرَ إرادة الشعب إطاحة بالدكتاتور المعتّل، لكلُ هذا وغيرهِ مما لا يتسعُ تفصيلُه، كانت لحظة إزاحة الإخوان من سُدة الحكم بعد خمسة استحقاقات انتخابية في عامين عودةً للسقوط في فراغ سلطة لمْ تُأسَّس، بل كسبها - كغنائم الحرب - ضِخامُ الحجم لِجهةِ قوتهم لا لِجهةِ إنصاف قواعد التأسيس، وإزاحتهم بالتالي – وإن جاءت بتدخل عسكري – لم تكن في إحدى تجلياتها النظرية سوى محض إعادة إنتاج الأسئلة الثقافية والسياسية التي ساهموا في إخراسها في لحظة الجماهير الضامّة، قبل أن تعاود قطاعات من تلك الجماهير طرحها أو طرح جزء منها في انتفاضة 30 يونيو.
(3)
الدفع بالسيسي
المتحدث العسكري ينفي نية «السيسي» الترشح للرئاسة: القائد العام فخور بقيادته للجيش – 19 يوليو 2013
"فيه نقطه مهمة عايز أقولها: بيتقال إن ده حكم عسكر، لا والله مش حكم عسكر ولا فيه أي رغبة وإرادة لحكم مصر، عايز أقولكم شرف إننا نحمي إرادة الناس أعز عندنا وعندي شخصياً من شرف حكم مصر، أقسم بالله على ذلك". من خطاب السيسي بعد قتل معتصمي رابعة، 18 أغسطس 2013
السيسي: "الوقت غير مناسب لسؤال ترشحي للرئاسة... واللهُ غالبٌ على أمْرِه" – 9 أكتوبر 2013
رويترز: «السيسي» صار أكثر تقبلًا لترشحه للرئاسة.. وضباط الجيش يؤيدونه في ذلك – 24 أكتوبر 2013
***
بتلك النغمة الحاسمة الأولى، أكد الجنرال السيسي والمتحدثون باسمه مراراً أنهم غير طامعين في السلطة، لم يتحركوا في 3 يوليو إلا لنجدة الشعب من ويلاتٍ انقسام أهلي قال عنه الجنرال في ذات الخطاب إن الشعب والدولة لم تكن لتتحمله ثلاث سنواتٍ أُخَرْ من حكمِ جماعةٍ صعدت إلى السلطةِ وسحبت السلّم خلفها لكيلا ينافسها آخرون، على حدّ تعبيره.
تغيرت النبرات سريعاً على وقع عزفٍ ذكي للجَوْقة، أو أنهم أُمِرُوا بالعزف حتى لا يخرج غناء الجنرال نشازاً، فكان الحديث في العلن عن إن "الله غالبٌ على أمره"، أمّا في الكواليس فتُصنع الأمور: رغبة في التحصين وتفكيرٌ جادٌ في مُعضلة الترشح، يظنُ المُشجعون لوطء بلاطِ القصر أنه سيملاً كرسياً تزداد حدة الصراع عليه حمأة وضجيجاً.
(4)
من يحرك من؟
"الخبر الجيِّد أن الجيش لا يحكم مصر الآن، الخبر السيِّئ أنه لا أحد يحكمها، نحن فى فوضى لا يعلم بها إلا ربنا.... أحسد هؤلاء الصِّبية الذين يتأنتخون أمام الكيبورد ويقررون أنه لا طير يطير من فوق الشجرة إلا بأوامر العسكر، فهؤلاء يحملون نظرة شديدة الإيجابية عن قدرة العسكر فى التحكم، ونظرة حالمة عن أن البلد محكومة أصلًا."
***
هكذا كتب إبراهيم عيسى (جريدة التحرير 4/11/2013)، واحد من الأقلام الشهيرة من مُعارضي مبارك، والذي أصبح واحداً ممّن حرضوا مراراً على تدخل الجيش في السياسة بعد شهور قليلة من الثورة، وهو كذلك أحد أساطين الترويج لمقولة أن لا حلَّ سياسياً، وإن الاستقرار لا يمر إلا على جماجم المخالفين وعظامهم أو إيداعهم المصحات النفسية؟).
يدقق من استدعوا الجيش للتدخل إذن في قدرته على الحكم، وإمكاناته الحقيقية في تدبير الأمور، ولا سُخرية في الأمر، فالذين يعولون على الحل الأمني حلاً وحيداً هم أنفسهم الذين يكتبون إن الجيش لا يحكم، وإن البلاد مفككة. ورغم إنني – في الغالب – أحد هؤلاء "صبية الكيبورد" الذين قصدهم عيسى، إلا أنني قد أدهشه كثيراً إذا قلت إني أتفق معه – تماماً - في طرحه الخاص بالدولة المفككة، إذ إنني لا أراهن كثيراً على نظريات المؤامرة، كما أن قناعتي التي عبرت عنها سابقاً ولازلت، هي إن الجيش لم يرغب في حقيقة الأمر في الإطاحة بمرسي أو الوصول لواجهة السلطة، لكنه فقط يبحث عن واجهة أخرى تمثله كما فعل مبارك، أو في أقل الأمور – أن يتفاهم مع تلك الواجهة حول مصالحه السياسية والاقتصادية التي لا يرغب في تقليصها، (إحدى تلك المصالح أن يظل الجيش محتكراً لتعريف الوطنية المصرية، ومعياراً للقومية) أما المحدد الثاني الذي تناولته، سابقا لتدخله، فهو أنه لا يريد أن يدفع ثمن أخطاء سلطة فاشلة.
فهل يمكن التفكير – من زاوية مقلوبة – إن الدفع بالسيسي ليس سوى واجهة يستغلها آخرون؟ وما هي إمكانات ملأ فراغ السلطة إن ترشح في لحظة جديدة من لحظات هيستريا الجماهير الضامّة؟ وهل يمكن التعويل على فعل هيستري رغم وقتيته؟ وماذا حين تنسحب الهيستريا التي صنعتها معاولُ الأسئلة قبل أن تلقى إجابة هي ذاتها خرجت للبحث عنها وانسحبت مجدداً حين تهسترت الجموع في أوّل رائحة للانتصار؟
ثانياً: السيسي كحاكم واجهة وشبكات المصالح
الإجابة على الأسئلة السابقة تستتبع التدقيق في ذلك الذي أطرحه، اتفاقاً مع "إبراهيم عيسى" من أن الدولة "مفككة وغير محكمومة" وفي الأسطر التالية أحاول إثبات ذلك في عدة أوجهه.
(1)
الدولة المُتـفسِّخة
إذ انتشر بمصر مصطلح "الدولة الرخوة" آواخر عهد مبارك، وانتقل الحديث إلى "الدولة العميقة" في سنيّ الثورة، أرى ملامح انتقالها إلى "دولة متفسخة"، حتى أجهزتها العميقة تبدو غير قادرة على كتم رائحة صراعٍ يزيد احتداماً على سلطة لم تبتْ مكتوبة ملامحها، ففور إعلان رئيس الأركان السابق، سامي عنان، نيته الترشح للرئاسة، انبرت أقلام السلطة تنهش في سيرته، حتى وجدنا ملفاً كاملاً عن حجم ثروته وفساده في إحدى الصُحف، لنقرأ بعدها أن الرجل تراجع أو أنه لم يحسم أمره، وفي ذات الوقت نشرٌ ونفيٌ متصلان عنْ دعمِ الجنرال شفيق له، لا تستطيع من تتابعهما أن تستبين الحقيقة من عدمها، غير أنك ترى رأيَ العين حجم الصراع على السلطة وعفنه، في مقالاتٍ كانت سترمي بأصحابها في سجون العسكر دهوراً لو أنها فقط كُتبت قبل عدة أشهر.
يتبدى التفسخ أيضاً في الصراع الذي لم تنطفئ جذوته على إنتاج "النسخة الرسمية" من خطابِ الثورة، إذ يبدو بعد 3 يوليو – أكثر من أي وقتٍ مضى – كيف يتبنى محسوبون على السُلطة خطابات متناقضة عن الثورة، يقول فريق منهم إن 25 يناير لم تكن سوى احتجاجات عملاء للإطاحة بزعيم قائد، أو في أفضل الأحوال: حراكٌ جماهيريٌ اخترقه مأجورون، محاولين السيطرة إذن بخطابهم ذاك على انتفاضة 30 يونيو وإخراجها في صورة الثورة الحقيقية، لا كامتدادٍ لثورة يناير. وهو ما حدا برئيسنا الخجول – عدلي منصور – في إحدى مرّات كلامِه النادرة على التأكيد على خطاب الامتداد الثوري، نافياً إهالة التراب على يناير.
(2)
الطامّاتُ الكواشف
يتصلُ بذلك – وربما يصدرُ عنه – ما يُدار من قناعاتٍ مُؤسِسةٍ في كواليس الأجهزة الأمنية، فصحيفة النيورك تايمز صدّرت تقريراً مهماً عن تعيين الجنرال محمد فريد التهامي مديراً للمخابرات العامة (القرار صدرَ بتوقيع عدلي منصور، لكن من المُهين لذكاء القارىء القول إن أحداً غير المخابرات العامة والسيسي كانا أصحاب القرار)، التهامي هو ذاته الذي عُزلَ من منصبه كرئيس لهيئة الرقابة الإدارية بعد تسريبات عن امتناعه التحقيق في قضايا فساد عصر مبارك (عينّه مبارك في ذلك المنصب منذ 2004، وتم التجديد له خمسُ مرّات) ووقوفه – ليس عاجزاً - بل حائلاً دون كشفها وفتح ملفاتها. (الاتهامات صدرت عن ضابط مستقيل من الجهاز، وتم وقف التحقيق فيها، رغم خطورتها، وعندنا كذلك ما تحدث به رئيس الهيئة الجديد اللواء محمد عمر وهبي عن تواطؤ الجهاز أثناء عصر مبارك مع أساطين الفساد، بينما تقل حصيلة ما استردته الدولة من أموالها بعد ثلاث سنوات من الثورة عن 2 مليار دولار، ويُقال إن التهامي بات ثلاثة أيام بلياليها في هلعٍ في مكتبه لجمع أوراقه بنفسه بعد عزله).
الجدير بالذكر في هذا الصددِ وما تورده الصحيفة أيضاً أن تهامي (66 عاماً)، كان مديراً للمخابرات الحربية، وبالتالي أستاذاً للسيسي (58 عاماً)، وهو ما يثير تساؤلات جمّة عن حجم التعاون/الصراع المفترض بين جهازين للمخابرات (الحربية والعامة) عُرِفا بالتنافس الدائم (كان عمر سليمان أيضاً مديراً للمخابرات الحربية قبل أن يصبح مديراً للمخابرات العامة)، ومدى سيطرة توجهات كلٍ منهما على سياسات الدولة حالياً، في ظلِّ غياب الرأس. فالمعروف إن المخابرات العامة كانت دائماً أكثر دموية وعنفاً مع الخصوم، وربما ذات كعبٍ أعلى في صُنع القرار. ومن المعروف أيضاً أن تعيين رئيسها يتبعُ مباشرة رئيسَ الجمهورية، إذ تحكمها علاقة تنافسية شديدة مع الجيش ومخابراته الحربية، فمن كان صاحبُ اليدِ الطولى في تعيين التهامي في ظل غياب رئيس جمهورية وتهلهل مؤسسة الرئاسة؟
لا يبتعد هذا كثيراً عن الصراع على إنتاج "خطاب" الثورة، وبالتالي مستقبل الحُكم في مصر. فليس خافياً أن عُمرْ سليمان (قائد المخابرات العامة وصديق مبارك المقرّب) ظلّ حتى منيّته وفيّاً لما تبنته المخابرات العامة من أساطير بُنيت على الترويج أن ثورة يناير كانت عملاً استخباراتياً – أو تم اختراقه – بالتنسيق مع الإخوان للإطاحة بنظام مبارك. ويشي من جلسوا مع السيسي (منذ أيام التحرير الأولى وبعد ذلك) أنه لم يكن يقلُ تحفظاً إزاء توصيف ما جرى بأنه ثورة، وأنه كان مقتنعاً ربما بكونها "انتفاضة ضد التوريث يجب أن تتوقف عند هذا الحد حتى لا تعرض الدولة للخطر". (لاحظ المفارقة - لسخرية القدر، من الطاماتِ الكواشف - في تعيين جنرال متهم بالتستر على قضايا فسادٍ يشيب لهولها الولدان على رأس المخابرات العامة، وعدم اعتبار ذلك خطراً يُهدد الدولة).
بل يقول آخرون من ذوي الحظوة أن السيسي كمديرٍ للمخابرات الحربية تنبأ بذلك الحراك الشعبي. وما يُهمنا هُنا في هذا الصدد هو تسليط الضوء على ذلك التناقض في الخطابات الرسمية لثورة يناير إذ يبدو - بأقلِ الأوصاف حِدّة – أن تلك الأجهزة غارقةٌ لم تزلْ في محيطاتِ الارتباكِ والتلعثم لأجل احتواء الثورة.
(3)
الشبكات الخلفية للواجهة
في المجال السياسي مثلاً، ولأنه لا أحد حالياً، كحزبٍ أو فرد، أقوى من الجنرال، باعترافهم أنفسهم، فربما يكون من الأفضل الدفع به كواجهة للحكم، يحدث هذا في وسائط موظفي البيروقراطية التي لم تتمرّس بعد على مفاهيم الحوكمة الرشيدة ولم تنل حقها في عدالة اجتماعية بينما يكون عدلها في حياة آمنة مُهدداً، مثلما يحدث على مستويات أخرى تتضح – على سبيل المثال – في مجموعة من السياسيين البهلوانات الذين لا يريدون لأي أحزاب يمينية أن تتواجد في مصر مجدداً بشكل قانوني، بدلاً من السعي في تعديل الدستور والقانون بشكل محترم ليمهد البيئة لمنافسة ذات قواعد محترمة لا تحابي الأحزاب الكبيرة ذات التمويل والحظوة، ولا يغض الطرف عن شعارات دينية أو طائفية، ويعاقب المرشحين المتجاوزين بشطبهم لدورة انتخابية أو دورتين على سبيل المثال. فالحل الوحيد الذي تعرفه أحزاب البهلوانات هو الكلب البوليسي أمام لجنة الانتخابات لكي ينجح محمد أو محمدين ولا يخترقها ثالث.
***
في المجال الاقتصادي، لا يفوتُ من ادّعى معرفةً بالشأن المصريّ أن يُغفِل حجم تأييد ترشح السيسي في قنوات فضائية يسيطر عليها كبار رجال الأعمال في البلد، وهي التي كانت لسان مبارك الغليظ ويده الباطشة في محاولته اليائسة وأد حراك يناير الأعظم، وهو تأييد لا نحتاج ذكاءً حاداً لنتوقع أن يتقلص بل أن يتحولّ للنقيض إذا ما هُددتْ مصالح هؤلاء الاقتصادية بإصلاحات جذرية حقيقية تهدف إلى إعادة توزيع الثروة وتجيب على سؤال الثورة الاقتصادي. فلا ننسى كيف أوقف رجل الأعمال محمد الأمين باسم يوسف بعد حلقةٍ واحدة من انتقاد السيسي وتهافت مؤيديه. (الأمين دخل مجال الإعلام بعد الثورة ليمتلك 14 قناة، أمّا بداية ثرائه فتعود لما قيل إنه استثمار في الاستصلاح الزراعي في عهد سئ الذِكر يوسف والي، قبل أن يتحالف مع أعمدة نظام مبارك في عامر جروب بتسهيلات وزير الإسكان إبراهيم سليمان الذي كشفت فصولُ محاكمته عن كثيرٍ من العفن).
الجدير بالذكر إن جهاز الرقابة الإدارية الذي من المفترض أن يواجه الفساد، تسيطر عليه المخابرات الحربية، ومن تقاليده أن يرشح وزير الدفاع اسماً لإدارته ويقوم رئيس الجمهورية بالتصديق على تعيينه، حتى رئيس الجهاز الأسبق اللواء هتلر طنطاوي تم وأد التحقيقات معه في تحقيقات بالكسب غير المشروع بعد الثورة، أما رجل الأعمال فريد خميس (الذي صعد نجمُه مع من استفادوا من الانفتاح الساداتي، لينضم في 2013 لقائمة أغنى 100 عربي في مجلّة الفوربس)، فهو من الذين وردت أسماؤهم في تستر الجهاز على مصائبهم. وكل هذا يعيدنا إلى السؤال غير البريء: منْ يُحركُ من؟
***
ولأن تدخل الجيش في السياسة إذا بدأ لا ينتهي سريعاً على الأغلب، فإن عاملاً آخر في نظرية "الحاكم الواجهة" يتمثل في كون البقاء في منصب وزير الدفاع دون تطلعات أكبر، يمثل معضلة بحد ذاتها، ذاك أنه إزاء الخوف من تقلبات أمزجةِ الشارع، خاصة في الأزمنة الثورية، ومن جهةٍ أخرى الخوف من تطلعات جنرالات آخرين قد يُكِّنوا طموحاً أكبر يُظهروه إذا ما سنحت الفرصة، يكون الأحرى الدفع بالجنرال تواً إلى حيث لا يعلوه أحد.
يتداخل ذلك العامل الأخير مع الشأنين الإقليمي والدولي، فإذا كان الثاني أمام الأضواء مُعارضاً للفكرة، ففي الكواليس يمكن التفاهم شيئاً فشيئاً، أمّا الدُول النفطية فتديرُ مصالحها بلا مُواربة، وهي التي ارتجفت رعباً لمرأى حاكم الدولة العربية الأكثر سكاناً في قفص المحكمة، تريد – هي أيضاً – خنق كل الأسئلة "المُعدِية" المتعلقة بالديموقراطية وتوزيع الثروة أملاً في الإجهاز على أية تجارب يمكن أن يكون لها أصداء إقليمية. وفي هذا السياق تحديداً لا يكون مُستغرباً تلك الأنباء عن ضغوط خليجية على السيسيللترشح للرئاسة مع وعودٍ بأنفاق من الدولارات تُبقي النظام حياً.
(4)
ما يأكلُ منسأة السلطة
تلتحم تلك العوامل وتتضافر الجهود – دون اضطرارية القصد - لتجعل من السيسي "حاكماً" و "واجهة" في ذات الوقت، خاصة حين نأخذُ بالحسبان حجم الضعف والتفكك الذين صارت إليهما الدولة المصرية من قبل وبعد الثورة، وهو ضعفٌ يُقرأ – أوضح ما يُقرأ - في شحوبِ بل انعدام تأثيرها الإقليمي من إيران إلى سوريا إلى السودان وإثيوبيا، ناهيك عن انقسام المجتمع انقساماً أهلياً. لكن الواجهة الديناصورية لن تكفي على الأرجح، فتجربة الأعوام الثلاثة الماضية تقول إن أي نظام سيأتي دون أن يحاول الإجابة بمصداقية وجديّة عن أسئلة الثورة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فإن حظوظه في البقاء تظل محدوده. حتى وإن بدا متماسكاً إلى حين. وهي قاعدة يبدو أن دُعاة "السيسي رئيساً" يتجاهلونها، رغم إن شيوخ الناصرية - تلك الأقلام الأكثر إلحاحاً في ترشح السيسي – ترصد بشكل دقيق كيف تتفكك الدولة المصرية إلى جزرٍ منعزلة بينما ينزف تحالف 30 يونيو شرعيته بتسارعٍ متزايد.
الأمر الذي يفوت هؤلاء إن المسألة ليست الأداء الحكومي فحسب، وإنما المنظومة ذاتها بأكملها، فالأجيال التي لعبت الفيفا من الأتاري السيجا حتى اهتزازات الكينكت في أجهزة الإكس بوكس، وشاهدت – فيما شاهدت - مايلي سايرس تمارس مراهقتها وتجرّب الحياة، وهي بعد كل ذلك ذاتُ الأجيال التي شاهدت – بل مارست - ثورة تخلع دكتاتوراً تجذّرت ضروبُ سيطرتِه، ثم شاهدت – بل ساهمت – في تسفيه الفاشية الدينية على صفحات فيسبوك وتويتر، ونزلت بمشايخ الفضائيات من عروشِ السماواتِ العُلى إلى مصافِ البشر الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، هذه الأجيال من الصعب أن تعود إلى بيوتها مجدداً مقتنعة أنه لم يكن بالأمكان أبدع مما كان.
(5)
ربما يترشح السيسي إذ تفتقر البلاد في لحظة الهيستريا الضامّة إلى منافسيين قادرين على حشد الجماهير، وبسبب تضافر جهود القصد واللاقصد في جعله حاكماً واجهة، لكن الواقع أن افتقار المنافسين لا يعني ملأ فراغ السلطة، فأسئلة كثيرة ستتعين الإجابة عنها وهي جميعاً لا تمر بالضرورة عبر ترشح السيسي بل في طرقٍ مختلفة تماماً، بين تلك الأسئلة: الفساد أعلاه، وإصلاح الشرطة وإنقاذ الاقتصاد والعدالة الاجتماعية، وليس آخرها فتح المجال الاجتماعي للتداعي وتحريره من قبضة الأبوية والسلطة، سِيان.
بوسعِي أن أفهم نظرية "الحاكم الواجهة"، إذا تخيلنا الدولة كفولاذٍ إسطواني، والمجتمع كقلبٍ من الشبكات قاسية مرونتها، مُعقدة التداخل، لكنها في النهاية تعمل على تقوية جدار الإسطوانة وتصِلُ بين أجزائها، فتحميها من الانهيار من الداخل. ما أحدثته الثورة من شروخٍ وشقوق عديدة في جدار الإسطوانة تلك – ناهيك عن ما أحدثته السلطات المتعاقبة نفسها بضعفها وهُزالها – لا يمكن إصلاحه إلا عبر إعادة تشكيل تلك الشبكات الواصلة المعقدة، ولا يتم ذلك إلا عبْرَ نشاطات حرّة التفاعل تحدثُ في بيئة مواتية بعد اقتناع مكونّاتِها بجدوى السعيّ، يكون نتيجة ذلك في النهاية حماية الدولة أو – في الأقل - تقليص آثار تفككها، أمّا التفكير أنه بالإمكان إعادة ترميم الجدار من الخارج بواجهةٍ ديناصورية أو أكثر، فليس سوى الظن أو ما تهوى الأنفس.
***
في الحوار يسألُ الصحفيّ: متى يعود الترابط واللُحمة بين كل أبناء الشعب؟
ويجيبُ السيسي: اللُحمة والترابط والتكاتف تعود بأفكار مُبدعة وإدارة رشيدة.